هل تفكر أمريكا في الانسحاب من العراق؟
هل تفكر أمريكا في الانسحاب من العراق؟
هل تفكر أمريكا في الانسحاب من العراق؟
"نحن نعلم أننا إذا غادرنا العراق - قبل استكمال المهمة - فإن العدو سيلاحقنا، وأريدكم أن تدركوا أن الشعب الأمريكي لن يؤيد سياسة التقهقر"، هذا جزءٌ من خطابٍ أدلى به نائب الرئيس الأمريكي "ديك تشيني" على متن حاملة الطائرات الأمريكية "كيتي هوك" في قاعدة "يوكوسوكا" البحرية بالقرب من طوكيو الشهر الماضي.
وهذا التصريح الذي يدلي به من يصفه المراقبون بأنه العقل المفكر للسياسة الأمريكية؛ يوضح مدى تمسك الإدارة - على الأقل - ظاهرياً بمبدأ عدم الانسحاب الفوري من العراق، وفي تصريح بعده بأسابيع قال البيت الأبيض: إن الرئيس الأميركي "جورج بوش" سيستخدم صلاحياته؛ لإحباط مشروع قرار للنواب الديمقراطيين في الكونغرس؛ لسحب قوات بلاده من العراق، وقال "دان بارتليت" مستشار الرئيس بوش: إن الإدارة ستعارض بشدة، وعند الاقتضاء سيستخدم "الرئيس" الفيتو ضد مشروع الديمقراطيين.
ومنذ أيام قليلة - فشلت خطة ديمقراطية تدعو لسحب القوات الأمريكية من العراق بحلول31 مارس 2008 - حيث رفض مجلس الشيوخ مشروع قرار قدمته الأغلبية الديمقراطية؛ يطالب بوضع جدول زمنيّ للانسحاب، فقد صوّت 48 عضواً من أصل مئة لمصلحة مشروع القرار, بينما عارضه50 سيناتوراً بناءً على تعليمات من قيادات الحزب الجمهوري الذين بقوا على وفائهم للرئيس "جورج دبليو بوش"، وقد صوت الشيوخ - بعد ذلك - على قرار يعرب عن التأييد للقوات الأمريكية في العراق، وجاءت نتيجة التصويت بتأييد 96 صوتاً، ومعارضة صوتين فقط.
لا شك أنه من الأهداف المعلنة لإدارة بوش - عند غزوها للعراق - هو تحقيق هدف رئيس ثم الانسحاب، وكان هذا الهدف متغيراً بدءاً من الإعلان عن هدف الغزو "هو حماية الأمن والسلام العالمييْن من خطر أسلحة الدمار الشامل العراقية"، فثبت أنه لا أسلحة من هذا النوع في العراق، وكانت تلك هزيمة سياسية وأخلاقية واستخباراتية لإدارته، وزعم أنه إنما أتى العراق غازياً لتوافُرِ قرائن لدى أجهزة دولته بوجود صلات بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة، فاضطر إلى أن يكذّب نفسه بنفسه وكانت "تلك" هزيمة ثانية للقرار السياسي والمصداقية، والقيم والمعلومات، ثم ما بقي لإدارته من ذريعة أخرى تبرّر بها غزوتها سوى الزعم بأنها إنما صُممت من أجل بناء عراق جديد، وإقامة نظام ديمقراطي فيه، ثم حدث ما حدث، وصار العراق - الآن - ما هو معروف للجميع.
وقد وصف بوش مشروع القرار حول الانسحاب من العراق الذي دافع عنه الديمقراطيون بأنه خيانة بحق القوات المنتشرة في هذا البلد، وقال: إن أي رحيل للجنود الأمريكيين من العراق سيشجع من أسماهم المتطرفين الإسلاميين على مهاجمة أهداف على الأرض الأمريكية،. وأضاف: في حال اضطررنا إلى مغادرة العراق قبل أن ننهي مهمتنا فإن العدو سوف يتبعنا إلى الولايات المتحدة، ولن نترك ذلك يحدث، أيّ إنه حتى الآن لم تتحقق هذه الأهداف، فلماذا إذن يتم الانسحاب من العراق؟
ولكن من ناحية أخرى هناك وَهْمٌ يتصوره البعض أن الانسحاب من العراق الذي تعلنه الإدارة الأمريكية يعني نهاية النفوذ الأمريكي في العراق والمنطقة وهذا خطأ كبير.
إذن هي عدة إشكاليات يجب الإجابة عنها؛ لمعرفة متى يتم الانسحاب الأمريكي من العراق:
إحدى هذه الإشكاليات هي تحديد - بدقة - الأهداف الحقيقية الأمريكية من غزو العراق، والأخرى هي تحديد مفهوم الانسحاب الذي تعلنه الإدارة، وهذا سنرجيء الحديث عنها في مقال آخر.
الأهداف الأمريكية من غزو العراق:
يتخبط كثير من المراقبين والمحللين السياسيين عندما يريدون معـرفة حقيقة ما تريده أمريكا من العراق: هل هو النفط، أم صياغة جديدة للمنطقة، أم الرغبة في مساندة إسرائيل، أم أهداف أخرى؟
والواقع أن أغلب المراقبين السياسيين إنما أجمعوا على وجود هذه الثلاثية من الأهداف التي هي: العقيدة، والنفط، وتغيير خريطة المنطقة، ولكن خلافهم حول أولويات هذه الأهداف وترتيبها؛ والتي تصب في النهاية لتحقيق الهدف الرئيس الذي عبّر عنه بوش في خطابه في احتفال البحرية الأميركية في فلوريدا يوم 13/2/2003م بقوله: نرغب أن نكون بلداً فوق الجميع.
1- البعد العقدي في احتلال أمريكا للعراق:
يأتي تأكيد وتثبيت موقع إسرائيل كقوة إقليمية عظمى في المنطقة في مقدمة الأهداف الأمريكية؛ لأن احتلال العراق من شأنه إيجاد حالة جديدة من التوتر والخلافات العربية؛ إضافة إلى أنه نجح إلى حد ما في هزّ الاستقرار الهش القائم الآن في العديد من الدول العربية، وفي المحصلة النهائية يؤدي إلى مزيد من الضعف العربي، وهو الأمر الذي يوفر توازناً جديداً للقوى يتيح لأولمرت فرض تسوية إسرائيلية يقبلها العرب كارهين أو مكرهين، ويقول "مايكل إيفانز" في كتابه "ما بعد العراق النقلة الجديدة": إن قيام إسرائيل افتتح حياة الجيل الأخير قبل "أرماجدُّون"، ثم جاء احتلال كامل أرض فلسطين في 1967م ليؤكد هذه النبوءة، وتسارع التاريخ في الحرب الأخيرة على العراق؛ ليؤكد الصلة الأبدية المتجددة بين "بابل" و"أورشليم"، الأولى هي الظلام، والثانية هي النور، دمار الأولى شرط انبعاث الثانية، هكذا ورد في العهد القديم حيث ذُكرت بابل "العراق" ليس أقل من 300 مرة بصفتها أرض الخطيئة الأولى، والتجسّد الشيطاني الأول في "نبوخذ نصّر" سابي اليهود، والوعد الأول "بأرماجدُّون".
لم تفعل الولايات المتحدة إذاً سوى تنفيذ المشيئة الإلهية، لقد كانت الحرب مكتوبة في العهد القديم، ومصير صدام حسين مكتوب، والدمار مكتوب، وتلتقط مجلة "دير شبيجل" الألمانية الشهيرة هذه الإشارات؛ ففي عددها الصادر قبل الحرب بتاريخ 17/2/2003م يحمل عنواناً حول الحرب الأمريكية المرتقبة ضد العراق حرب جورج بوش الصليبية، وتقول المجلة: نلاحظ أن بوش يؤمن إيماناً راسخاً أنه يقوم بتنفيذ 13 تكليفاً إلهياً يقوم على أفكار مسيحية يمينية متطرفة.
والقضية التي يؤكد عليها "برنارد لويس" المستشرق البريطاني المعروف هي أن علاقة التحالف القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من الخطأ النظر إليها على أنها مجرد علاقة تحالف استراتيجي، بل هي علاقة عاطفية أو أيديولوجية في المقام الأول.
2- البعد الاقتصادي:
إن مسألة احتلال الولايات الأمريكية للعراق ترتبط بأهداف استراتيجية أمريكية كبرى ومتعددة تهدف في نهايتها إلى فرض هيمنة أمريكية على النظام الدولي، وأحد سبلها في ذلك تتمثل في التحكم في الثروات النفطية في الخليج، وإخضاعها لسيطرة أمريكية كاملة ومباشرة، ومن ثمّ التحكم في أهم مصدر حيوي للطاقة والصناعة في العالم، وهو ما يعطي الولايات المتحدة ميزة لا تتوافر لغيرها من الدول الكبرى الأخرى، ومن ثم يعزز مكانتها ودورها العالمي لعقود قادمة؛ هذا بالإضافة إلى وضع اليد على شبكة مواصلاتها وموقعها، ولعلنا نلاحظ أن هدف السيطرة الأمريكية هو على بورصة النفط وليس على النفط نفسه، وهذه السيطرة هي وسيلة الإنقاذ الوحيدة للاقتصاد الأميركي المتهاوي؛ حيث التحكم بأسعار النفط يجعل الولايات المتحدة قادرة على تحقيق الأرباح على حساب الاقتصاديات الأوروبية واليابانية تحديداً.
عراق صدام من جهته هدد هذا الطموح تهديدات مباشرة، ولعل أكثرها صراحة هي الدعوة العراقية بتسعير النفط بعملات أخرى غير الدولار، وهي دعوة تنسف الاقتصاد الأميركي في حال تحقيقها، عدا الإغراءات النفطية التي أطلقتها العراق في السنوات الأخيرة بدءاً من تنازلات للاستثمارات الفرنسية والروسية، ومروراً بهبات النفط والكميات المعروضة بأسعار متدنية؛ عدا النفط العراقي المهرب الذي أسس لشبكة علاقات سياسية كادت تتجاوز الحصار المفروض على العراق، ويلاحظ بهذا الصدد أن المندوب الأميركي في مجلس الأمن قد اعترض على تعبير حق الشعب العراقي في موارده النفطية، وتم استبدال ذلك بعبارة غامضة تتحدث عن حق الشعب العراقي في الاستفادة من استثمار تلك الموارد النفطية، وشتان بين ما يعنيه كلا التعبيرين.
3- إعادة ترتيب الأوضاع ورسم الخريطة السياسية للمنطقة:
وهو الهدف الاستراتيجي لهذه العملية، وهو سينتج تلقائياً مع تحقيق الأهداف السابقة؛ حيث لا يتبقى إلا وضع الصورة النهائية لخريطة المنطقة السياسية بما يتلاءم والمصالح الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة العربية.
وذلك ما عبّر عنه "بوش" صراحة في خطابه في معهد "أميركان أنتربرايز" بقوله: إن تغيير النظام في العراق سيفسح المجال أمام تغييرات إيجابية في كامل منطقة الشرق الأوسط، ويوضح بوش ذلك في الخطاب نفسه بقوله: إن قيام نظام جديد في العراق سيخدم كمثال مهم جداً الحرية، يُلهِم البلدان الأخرى في المنطقة، وتوصل الباحث "فيليب جوردون" من معهد "بروكنجز" إلى أن هناك عدة افتراضات تقوم عليها هذه الرؤية:
الافتراض الرئيس هو أن الوضع الراهن في الشرق الأوسط لم يعد مقبولاً بعد الهجمات الانتحارية على واشنطن ونيويورك في 11سبتمبر (أيلول)؛ فالذين فجروا الطائرات الانتحارية في برجي مركز التجارة العالمي ومقر البنتاجون جاءوا من العالم العربي، مدفوعين بكراهية للولايات المتحدة، سببها الدعم الأميركي لنظم غير ديمقراطية.
وقد ورد في نشرة "فورين ريبورت" الأميركية الاستراتيجية أن من بين المصالح الأمنية الأميركية في المنطقة - بعد الحملة الأميركية على أفغانستان - إبرام تسويات سلمية في الشرق الأوسط، تستقر مع إعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة التي تشتعل بالصراعات الإقليمية والدولية وفقاً للتخطيط الأميركي، بينما يبقى الاهتمام الأميركي في المنطقة هو المحافظة على التفوق العسكري الإسرائيلي، وخلق كيانات صغيرة في المنطقة؛ للمحافظة على ذلك التفوق، ومن ثمّ تأمين تدفق البترول من الخليج العربي وبحر قزوين إلى الغرب بالمعدلات والأسعار الملائمة له، وتأمين خطوط المواصلات البحرية العالمية بما يخدم حرية التجارة الدولية بلا قيود، وتدفق الصادرات الأميركية والأوروبية - وفي مقدمتها السلاح - إلى الدول العربية، ودول جنوب آسيا، ويضيف المصدر الآنف الذكر أن هناك في بعض الدول العربية المجاورة لإسرائيل فريقاً أميركيّاً من كبار المخططين السياسيين يدرس أحوال الدول العربية؛ وذلك بهدف تفكيك دول المنطقة، وإعادة تركيبها من جديد، بل إن بعض الدول ستظهر في المنطقة، وسيختفي بعضها الآخر.
وبمتابعة ما تحقق من هذه الأهداف وما لم يتحقق نجد أن جُلها لم يتحقق على أرض الواقع حتى الآن، رغم تغير الاستراتيجيات الأمريكية لتطبيق تلك الأهداف والغايات، مما يعني أن الانسحاب الأمريكي من العراق ليس وشيكاً كما يحلو للبعض أن يتصوره.
وهذا التصريح الذي يدلي به من يصفه المراقبون بأنه العقل المفكر للسياسة الأمريكية؛ يوضح مدى تمسك الإدارة - على الأقل - ظاهرياً بمبدأ عدم الانسحاب الفوري من العراق، وفي تصريح بعده بأسابيع قال البيت الأبيض: إن الرئيس الأميركي "جورج بوش" سيستخدم صلاحياته؛ لإحباط مشروع قرار للنواب الديمقراطيين في الكونغرس؛ لسحب قوات بلاده من العراق، وقال "دان بارتليت" مستشار الرئيس بوش: إن الإدارة ستعارض بشدة، وعند الاقتضاء سيستخدم "الرئيس" الفيتو ضد مشروع الديمقراطيين.
ومنذ أيام قليلة - فشلت خطة ديمقراطية تدعو لسحب القوات الأمريكية من العراق بحلول31 مارس 2008 - حيث رفض مجلس الشيوخ مشروع قرار قدمته الأغلبية الديمقراطية؛ يطالب بوضع جدول زمنيّ للانسحاب، فقد صوّت 48 عضواً من أصل مئة لمصلحة مشروع القرار, بينما عارضه50 سيناتوراً بناءً على تعليمات من قيادات الحزب الجمهوري الذين بقوا على وفائهم للرئيس "جورج دبليو بوش"، وقد صوت الشيوخ - بعد ذلك - على قرار يعرب عن التأييد للقوات الأمريكية في العراق، وجاءت نتيجة التصويت بتأييد 96 صوتاً، ومعارضة صوتين فقط.
لا شك أنه من الأهداف المعلنة لإدارة بوش - عند غزوها للعراق - هو تحقيق هدف رئيس ثم الانسحاب، وكان هذا الهدف متغيراً بدءاً من الإعلان عن هدف الغزو "هو حماية الأمن والسلام العالمييْن من خطر أسلحة الدمار الشامل العراقية"، فثبت أنه لا أسلحة من هذا النوع في العراق، وكانت تلك هزيمة سياسية وأخلاقية واستخباراتية لإدارته، وزعم أنه إنما أتى العراق غازياً لتوافُرِ قرائن لدى أجهزة دولته بوجود صلات بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة، فاضطر إلى أن يكذّب نفسه بنفسه وكانت "تلك" هزيمة ثانية للقرار السياسي والمصداقية، والقيم والمعلومات، ثم ما بقي لإدارته من ذريعة أخرى تبرّر بها غزوتها سوى الزعم بأنها إنما صُممت من أجل بناء عراق جديد، وإقامة نظام ديمقراطي فيه، ثم حدث ما حدث، وصار العراق - الآن - ما هو معروف للجميع.
وقد وصف بوش مشروع القرار حول الانسحاب من العراق الذي دافع عنه الديمقراطيون بأنه خيانة بحق القوات المنتشرة في هذا البلد، وقال: إن أي رحيل للجنود الأمريكيين من العراق سيشجع من أسماهم المتطرفين الإسلاميين على مهاجمة أهداف على الأرض الأمريكية،. وأضاف: في حال اضطررنا إلى مغادرة العراق قبل أن ننهي مهمتنا فإن العدو سوف يتبعنا إلى الولايات المتحدة، ولن نترك ذلك يحدث، أيّ إنه حتى الآن لم تتحقق هذه الأهداف، فلماذا إذن يتم الانسحاب من العراق؟
ولكن من ناحية أخرى هناك وَهْمٌ يتصوره البعض أن الانسحاب من العراق الذي تعلنه الإدارة الأمريكية يعني نهاية النفوذ الأمريكي في العراق والمنطقة وهذا خطأ كبير.
إذن هي عدة إشكاليات يجب الإجابة عنها؛ لمعرفة متى يتم الانسحاب الأمريكي من العراق:
إحدى هذه الإشكاليات هي تحديد - بدقة - الأهداف الحقيقية الأمريكية من غزو العراق، والأخرى هي تحديد مفهوم الانسحاب الذي تعلنه الإدارة، وهذا سنرجيء الحديث عنها في مقال آخر.
الأهداف الأمريكية من غزو العراق:
يتخبط كثير من المراقبين والمحللين السياسيين عندما يريدون معـرفة حقيقة ما تريده أمريكا من العراق: هل هو النفط، أم صياغة جديدة للمنطقة، أم الرغبة في مساندة إسرائيل، أم أهداف أخرى؟
والواقع أن أغلب المراقبين السياسيين إنما أجمعوا على وجود هذه الثلاثية من الأهداف التي هي: العقيدة، والنفط، وتغيير خريطة المنطقة، ولكن خلافهم حول أولويات هذه الأهداف وترتيبها؛ والتي تصب في النهاية لتحقيق الهدف الرئيس الذي عبّر عنه بوش في خطابه في احتفال البحرية الأميركية في فلوريدا يوم 13/2/2003م بقوله: نرغب أن نكون بلداً فوق الجميع.
1- البعد العقدي في احتلال أمريكا للعراق:
يأتي تأكيد وتثبيت موقع إسرائيل كقوة إقليمية عظمى في المنطقة في مقدمة الأهداف الأمريكية؛ لأن احتلال العراق من شأنه إيجاد حالة جديدة من التوتر والخلافات العربية؛ إضافة إلى أنه نجح إلى حد ما في هزّ الاستقرار الهش القائم الآن في العديد من الدول العربية، وفي المحصلة النهائية يؤدي إلى مزيد من الضعف العربي، وهو الأمر الذي يوفر توازناً جديداً للقوى يتيح لأولمرت فرض تسوية إسرائيلية يقبلها العرب كارهين أو مكرهين، ويقول "مايكل إيفانز" في كتابه "ما بعد العراق النقلة الجديدة": إن قيام إسرائيل افتتح حياة الجيل الأخير قبل "أرماجدُّون"، ثم جاء احتلال كامل أرض فلسطين في 1967م ليؤكد هذه النبوءة، وتسارع التاريخ في الحرب الأخيرة على العراق؛ ليؤكد الصلة الأبدية المتجددة بين "بابل" و"أورشليم"، الأولى هي الظلام، والثانية هي النور، دمار الأولى شرط انبعاث الثانية، هكذا ورد في العهد القديم حيث ذُكرت بابل "العراق" ليس أقل من 300 مرة بصفتها أرض الخطيئة الأولى، والتجسّد الشيطاني الأول في "نبوخذ نصّر" سابي اليهود، والوعد الأول "بأرماجدُّون".
لم تفعل الولايات المتحدة إذاً سوى تنفيذ المشيئة الإلهية، لقد كانت الحرب مكتوبة في العهد القديم، ومصير صدام حسين مكتوب، والدمار مكتوب، وتلتقط مجلة "دير شبيجل" الألمانية الشهيرة هذه الإشارات؛ ففي عددها الصادر قبل الحرب بتاريخ 17/2/2003م يحمل عنواناً حول الحرب الأمريكية المرتقبة ضد العراق حرب جورج بوش الصليبية، وتقول المجلة: نلاحظ أن بوش يؤمن إيماناً راسخاً أنه يقوم بتنفيذ 13 تكليفاً إلهياً يقوم على أفكار مسيحية يمينية متطرفة.
والقضية التي يؤكد عليها "برنارد لويس" المستشرق البريطاني المعروف هي أن علاقة التحالف القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من الخطأ النظر إليها على أنها مجرد علاقة تحالف استراتيجي، بل هي علاقة عاطفية أو أيديولوجية في المقام الأول.
2- البعد الاقتصادي:
إن مسألة احتلال الولايات الأمريكية للعراق ترتبط بأهداف استراتيجية أمريكية كبرى ومتعددة تهدف في نهايتها إلى فرض هيمنة أمريكية على النظام الدولي، وأحد سبلها في ذلك تتمثل في التحكم في الثروات النفطية في الخليج، وإخضاعها لسيطرة أمريكية كاملة ومباشرة، ومن ثمّ التحكم في أهم مصدر حيوي للطاقة والصناعة في العالم، وهو ما يعطي الولايات المتحدة ميزة لا تتوافر لغيرها من الدول الكبرى الأخرى، ومن ثم يعزز مكانتها ودورها العالمي لعقود قادمة؛ هذا بالإضافة إلى وضع اليد على شبكة مواصلاتها وموقعها، ولعلنا نلاحظ أن هدف السيطرة الأمريكية هو على بورصة النفط وليس على النفط نفسه، وهذه السيطرة هي وسيلة الإنقاذ الوحيدة للاقتصاد الأميركي المتهاوي؛ حيث التحكم بأسعار النفط يجعل الولايات المتحدة قادرة على تحقيق الأرباح على حساب الاقتصاديات الأوروبية واليابانية تحديداً.
عراق صدام من جهته هدد هذا الطموح تهديدات مباشرة، ولعل أكثرها صراحة هي الدعوة العراقية بتسعير النفط بعملات أخرى غير الدولار، وهي دعوة تنسف الاقتصاد الأميركي في حال تحقيقها، عدا الإغراءات النفطية التي أطلقتها العراق في السنوات الأخيرة بدءاً من تنازلات للاستثمارات الفرنسية والروسية، ومروراً بهبات النفط والكميات المعروضة بأسعار متدنية؛ عدا النفط العراقي المهرب الذي أسس لشبكة علاقات سياسية كادت تتجاوز الحصار المفروض على العراق، ويلاحظ بهذا الصدد أن المندوب الأميركي في مجلس الأمن قد اعترض على تعبير حق الشعب العراقي في موارده النفطية، وتم استبدال ذلك بعبارة غامضة تتحدث عن حق الشعب العراقي في الاستفادة من استثمار تلك الموارد النفطية، وشتان بين ما يعنيه كلا التعبيرين.
3- إعادة ترتيب الأوضاع ورسم الخريطة السياسية للمنطقة:
وهو الهدف الاستراتيجي لهذه العملية، وهو سينتج تلقائياً مع تحقيق الأهداف السابقة؛ حيث لا يتبقى إلا وضع الصورة النهائية لخريطة المنطقة السياسية بما يتلاءم والمصالح الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة العربية.
وذلك ما عبّر عنه "بوش" صراحة في خطابه في معهد "أميركان أنتربرايز" بقوله: إن تغيير النظام في العراق سيفسح المجال أمام تغييرات إيجابية في كامل منطقة الشرق الأوسط، ويوضح بوش ذلك في الخطاب نفسه بقوله: إن قيام نظام جديد في العراق سيخدم كمثال مهم جداً الحرية، يُلهِم البلدان الأخرى في المنطقة، وتوصل الباحث "فيليب جوردون" من معهد "بروكنجز" إلى أن هناك عدة افتراضات تقوم عليها هذه الرؤية:
الافتراض الرئيس هو أن الوضع الراهن في الشرق الأوسط لم يعد مقبولاً بعد الهجمات الانتحارية على واشنطن ونيويورك في 11سبتمبر (أيلول)؛ فالذين فجروا الطائرات الانتحارية في برجي مركز التجارة العالمي ومقر البنتاجون جاءوا من العالم العربي، مدفوعين بكراهية للولايات المتحدة، سببها الدعم الأميركي لنظم غير ديمقراطية.
وقد ورد في نشرة "فورين ريبورت" الأميركية الاستراتيجية أن من بين المصالح الأمنية الأميركية في المنطقة - بعد الحملة الأميركية على أفغانستان - إبرام تسويات سلمية في الشرق الأوسط، تستقر مع إعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة التي تشتعل بالصراعات الإقليمية والدولية وفقاً للتخطيط الأميركي، بينما يبقى الاهتمام الأميركي في المنطقة هو المحافظة على التفوق العسكري الإسرائيلي، وخلق كيانات صغيرة في المنطقة؛ للمحافظة على ذلك التفوق، ومن ثمّ تأمين تدفق البترول من الخليج العربي وبحر قزوين إلى الغرب بالمعدلات والأسعار الملائمة له، وتأمين خطوط المواصلات البحرية العالمية بما يخدم حرية التجارة الدولية بلا قيود، وتدفق الصادرات الأميركية والأوروبية - وفي مقدمتها السلاح - إلى الدول العربية، ودول جنوب آسيا، ويضيف المصدر الآنف الذكر أن هناك في بعض الدول العربية المجاورة لإسرائيل فريقاً أميركيّاً من كبار المخططين السياسيين يدرس أحوال الدول العربية؛ وذلك بهدف تفكيك دول المنطقة، وإعادة تركيبها من جديد، بل إن بعض الدول ستظهر في المنطقة، وسيختفي بعضها الآخر.
وبمتابعة ما تحقق من هذه الأهداف وما لم يتحقق نجد أن جُلها لم يتحقق على أرض الواقع حتى الآن، رغم تغير الاستراتيجيات الأمريكية لتطبيق تلك الأهداف والغايات، مما يعني أن الانسحاب الأمريكي من العراق ليس وشيكاً كما يحلو للبعض أن يتصوره.
حسن الرشيدي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى